فصل: وقال ابن العربي المالكي: نكاحهم جائز عقلًا. فإن صح نقلًا فبها ونعمت.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



اي أسرعوا في الخدمة، ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت: وإليك نسعى وونحفد. أي نسرع في طاعتك، وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يسن عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح كما هو معروف.
وقيل: الحفدة الأختان، وهم أزواج البنات، ومنه قول الشاعر:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ** لها حفد مما يعد كثير

ولكنها نفس علي أبية ** عيوف لإصهار اللئام قذور

والقذور: التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي، تباعدًا عن التدنس بقذره.
قال مقيده عفا الله عنه: الحفدة: جمع حافد، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية. فنبن ذلك.
وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد. لأن قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم، وذلك دليل على، هم كلهم من أولاد أزواجهم، ودعوى أن قوله: {وحفدةً} معطوف على قوله: {أَزْوَاجًا} غير ظاهرة.
كما أن دعوى أنهم الأختان، وأن الأختان أزواج بناتهم، وبناتهم من أزواجهم، وغير ذك من الأقوال- كله غير ظاهر، وظاهر القرآن هو ما ذكر، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطبي وغيرهما، ومعلوم: أن أولاد الرجل، وأولاد أولاده: من خدمه المسرعين في خدمته عادة، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} الآية- رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها. حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منم، وكان يخبؤوا عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر. فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة، فقالت: عمرو ونفرت. فلم يرها ابدًا، ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور:
ألا لحى الله بني السعلاة ** عمرو بن يربوع لئام النات

ليسوا بأعفاف ولا أكيات

أبدلت فيه السين تاء أيضًا، وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها. فزعم أنه يستر عنها لبرق لئلا يشوقها إلى أوطانها كما كان عمرو يستره عن سعلاته:
والسعلاة: عجوز الجن، وقد روي منحديث أبي هريرة: ان النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحد أبوي بلقيس كان جنِّيًَّا».
قال صاحب الجامع الصغير: أخرجه ابو الشيخ في العظمة، وابن مردويه في التفسير، وابن عساكر: وقال شارحه المنَاوي: في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين: ضعيف، وعن ابن مسهر: لم يكن ببلدنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر اهـ، وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، ووثقه النسائي. انتهى.
وقال المناوي في شرح حديث: «أحد أبوي بلقيس جنيًا» قال قتادة: ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة، وجاء في آثار: أن الجني الأم، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه، فقال: يا حسنة اسقي عمك. ففخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت. فخطبها من أبيها، فذكر أنه جني، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها. فأتت منه بولد ذكر، ولم يذكر قبل ذلك، فذبحته فكرب لذلك، وخاف أن يسألها فتبين منه. ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر فاغتم فلم يملك ان سألها، فقالت: هذا جزائي منك! باشرت قتل ولدي من أجلك! وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول: إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها، ويصفون ملكها، وهذا فراق بيني وبينك. فلن يرها بعد. هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني اه من شرح المنَاوي للجامع الصغير.
وقال القرطبي في تفسيره سورة النحل: كان أبو بلقيس وهو السرح بن الهداهد بن شراحي، ملكًا عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفأ لي، وأبي أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن. فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
وقال أبو هريرة: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «كان أحد ابوي بلقيس جنيًا» إلى أن قال: إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرًا لملك عات، يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورًا فلم يتزوج. فصحب مرة في الطريق رجلًا لا يعرفه فقال: هل لك من زوجة؟ فقال: لا اتزوج أبدًا. فإن ملك بلدنا يغتصب الناسر من أزواجهن. فقال: لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدًا. قال: بل يغتصبها! قال: إنا قوم من الجن لا يقدر علينا. فتزوج ابنته فولدت له بلقيس- غلى غير ذلك من الروايات.
وقال القرطبي ايضًا: وروى وهيب بن جرير بن حازم، عن الخليل بن أحمد، عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن، يقال لها: بلعمة بنت شيصان.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيًا ضعيف، وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.
مسألة:
اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن. فمنعها جماعة من أهل العلم، وأباحها بعضهم.
قال المناوي في شرح الجامع الصغير: ففي الفتاوى السراجية للحنفية: لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء. لاختلاف الجنس، وفي فتاوي البارزي من الشافعية: لا يجوز التناكح بينهما، ورجح ابن العماد جوازه. اهـ.

.قال الماوردي:

وهذا مستنكر للعقول. لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين. إذا الآدمي جسماني، والجني روحاني، وهذا من صلصال كالفخار، وذلك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع. اهـ.

.وقال ابن العربي المالكي: نكاحهم جائز عقلًا. فإن صح نقلًا فبها ونعمت.

قال مقيده عفا الله عنه: لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصًّا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن، بل الذي يستروح من ظواهر الايات عدم جوازه. فقوله في هذه الآية الكريمة: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]. الآية. ممتنًا على بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم- يفهم منه أنه كا جعل لهم ازواجًا تباينهم كمباينة الإنس والجن، وهو ظاهر، ويؤيده قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. فقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا} في معرض الامتنان- يدل على أنه ما خلق لهم أزواجًا من غير أنفسهم.
ويؤيد ذلك ما تقر في الأصول من أن النكرة في سياق الامتنان تعم فقله: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} جمع منكر في سياق الامتنان فهويعم، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا، أي من نوعنا وشكلنا. مع أن قومًا من أهل الأصول زعموا أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم، والتحقيق أنها في سياث الإثبات لا تعم، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح:
منه منكر الجمع عرفا ** وكان والذي عليه انعطفا

اما في سياق الامتنان فالنكرة تعم، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق الامتنان تعم، كقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48]. اي فكل ماء نازل من السماء طهور وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي. كقوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6]. الآية، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]. الآية، ويستأنس لهذا بقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166]. فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم، وتعديه إلى غير يستوجب الملام، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط. لأن أول الكلام {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165-166]. فإنه وبخهم على أمرين: أحدهما- إتيان الذكور، والثاني: ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم.
وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم، هو الكائن من أنفسهم. أي من نوعهم وشكلهم. كقوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21]، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجًا من غير أنفسهم، والعلم عند الله تعالى.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: ان الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا من السموات بإنزال المطر، ولا من الأرض بإنبات النبات، وأكذ عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون، أي لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلًا. لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء.
ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح ان يعبد إلا من يرزق الخلق. لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل، وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فابتغوا عِندَ الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]، وقوله: {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21]، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 56-58]، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} [طه: 132]، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماء والأرض} [فاطر: 3]. الآية، وقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض} [يونس: 31]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه:
في قوله: {شَيْئًا} في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب:
الأول: أنه قوله: {رزقًا} مصدر، وأن {شيئًا} مفعول به لهذا المصدر. اي ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئًا من الرزق، ونظير هذا الإعراب قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [البلد: 14-15]. فقوله: {يَتِيمًا} مفعول به للمصدر الذي هو إطعام. اي أن يطعم يتيمًا ذا مقربة، ونظيره من كلام العرب قوله المرار بن منقذ التميمي:
بضرب بالسيوف رؤوس قوم ** أزلنا هامهن عن القميل

فقوله: رؤوي قوم مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله بضرب بناء على ان المراد بالرزق هو ما يرزقه اله عباده. لا المعنى المصدري.
الوجه الثالث: ان يكون قوله: {شيئًا} ما ناب عن المطلق من قوله: {يملك} أي لا يملك شيئًا من الملك، بمعنى لا يملك ملكًا قليلًا أن يرزقهم.
قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال}.
نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال. اي يجعلوا به اشباهًا ونظراء من خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا!
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. الآية، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الاخلاص: 4]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} هذا من الاستدلال على أن التّصرف القاهر لله تعالى.
وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والإماتة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرّزق.
ولما كان الرّزق حاصلًا لكل موجود بُني الاستدلال على التّفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى: {والله خلقكم ثم يتوفاكم} [سورة النحل: 70].
ووجه الاستدلال به على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لِجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلًا وفهمًا مقتّرًا عليه في الرزق، وبضدّه ترى أجهل الناس وأقلّهم تدبيرًا موسّعًا عليه في الرزق، وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتّر عليه لا يدري أسباب التّقتير، والموسّع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه، ذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغّلة في الخفاء حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها ومما ينسب إلى الشافعي:
ومن الدّليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيَت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة ** وصيّر العالم النّحرير زنديقا

وهذا الحكم دلّ على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالنّحريرية.
وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع.
فجملة: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} مقدمة للدّليل ومنّة من المنن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق.
وليست الجملة مناط الاستدلال، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى: {فما الذين فضلوا برادي رزقهم} الآية.
والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى: {والله خلقكم ثم يتوفاكم} [سورة النحل: 70].
والمعنى: الله لا غيره رزقكم جميعًا وفضّل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له.
وقد تمّ الاستدلال عند قوله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} بطريقة الإيجاز، كما قيل: لمحة دالة.
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قوله تعالى: {فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء}.
وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سَوّوا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فسادًا في تفكيرهم.